والذي يدل على أن البخاري كان على إدراك كامل بهذا الاختلاف الواقع بين هذه الروايات، عندما ذكر هذه الروايات في كتابه أمور:
الأمر الأول: حِفْظُ البخاري الذي عُرف به وقَيّده عنه المعاصرون له
والشاهدون عليه، وهو حفظٌ باهر نادر المثال بين الناس. ومثل هذا الحفظ
يُستبعد معه أن يغيب عن البخاري مثل هذا التعارض الواضح الذي لا يغيب عن
أحد، ولا يحتاج إلى عُمق فهم لإدراكه.
الأمر الثاني: أن البخاري بعد أن ألّف صحيحه كان يرويه لتلامذته، وكان
يكرّر روايته مّرات كثيرة لتلامذته المتجدّدين والذين يكرّرون سماعه منه،
فلئن أبحنا لأنفسنا أن البخاري (بحفظه الباهر) قد فاته هذا الاختلاف
الظاهر عند تأليف الكتاب، أفلا يتنبّهُ له عند روايته، وعند تكريره
لقراءته على تلامذته؟!! ثم ألا يُنَبِّهُهُ ألوفُ التلامذة الذين أخذوه
عنه إلى هذا الاختلاف، فيما لو فاته هو التنبُّهُ له؟!!
الأمر الثالث: (وهو الأهمّ): أن البخاري في صحيحه، وفي كتاب أحاديث
الأنبياء من صحيحه، وفي باب قول الله تعالى: "وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ
سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ" [ص:30]، وهو الحديث رقم
(3424) في صحيح البخاري، ذكر البخاري روايةً ذكرت العدد أنه (سبعون)، ثم
قال البخاري ناقلاً اختلاف الرواة في هذا العدد: "وقال شعيب وابن أبي
الزناد: تسعين، وهو أصحّ". فهذا دليلٌ قاطع على أن البخاري كان على وعي
كامل وإدراك واضح لاختلاف الرواة في العدد الوارد في هذا الحديث.
ومثل البخاري في ذلك الإمام مسلم، حيث إنه ساق الروايات المختلفة في موطن
واحد، بعضها عقب بعض، كما سبق العزو إليه. ممّا يبيّن أن هذا الاختلاف لم
يذكره الإمام مسلم لأنه لم يكن منتبهًا إلى وقوعه، بل ذكره مع العلم
التامّ بوقوعه!
ونخرج من هذا العرض بالتقرير التالي: إن ذكر الإمام البخاري والإمام مسلم
لاختلافات هذا الحديث كان مقصوداً منهما، ولم يكن عن غفلةٍ منهما.
وبناءً على هذا التقرير الذي دَلّلنا عليه بالأدّلة القاطعة: لا يصح أن
يكون هذا الاختلاف دليلاً على أن البخاري ومسلمًا كانا يظنّان عدم وقوعه،
فصحّحا الحديث لغفلتهما عن وقوعه. هذا القول لم يعد له مكان ولا وجه
مقبول، بعد التقرير الذي انتهينا منه آنفًا.
وبناءً على هذا التقرير ينبغي أن يتّجه البحثُ العلمي الصادقُ وجهة -ولا
أدري كيف وقع هذا الخطأ- أخرى حيال هذا الحديث باختلاف رواياته، وينبغي أن
تكون هذه الوجهة الجديدة بعيدةً عن الاحتمال الذي أبطلناه، وهو أن
البخاري كان غافلاً عن الاختلاف الواقع في الحديث، بعد أن ثبت أنه ليس
غافلاً.
وبعبارة أخرى: بعد أن ثبت أن الإمام البخاري قد قصد إيراد هذه الروايات في صحيحه، وأنه تعمّد هذا؛ فما هو وَجْهُ ذلك؟
الجواب الأول: إن البخاري تعمَّد ذكر هذا الاختلاف، ليبيّن أنه على علم به،
ونبَّهَ على الرواية الصحيحة عنده باللفظ الصريح، عندما قال كما سبق عن
رواية (التسعين): "وهو أصحّ".
وهذا منهج معلومٌ للبخاري في صحيحه: أنه قد يذكر الاختلاف للتنبيه عليه،
لكنه يبينُّ الصواب والراجح منه. وقد نصّ على هذا المنهج بعض شُرّاح
كتابه، كالحافظ ابن حجر في شرحه الشهير (فتح الباري). وهو منهجٌ متكرّرٌ
في كتابه في مواطن عديدة، وهو معلومٌ لدى المشتغلين بالسنة. وغفلة
السائل عن هذا المنهج للبخاري قصورٌ واضح في علمه بكتاب البخاري خاصة،
يُضَاف على قصوره الواضح في علوم الحديث عمومًا، كما سبق تقريره.
ولا أقصد من التأكيد على هذا القصور (كما سبق)، إلا تنبيه السائل إلى أنه
ينبغي له أن لا يعترض على علماء الأمّة بغير معرفة بالعلم الذي يعترض
عليه، وهو علم السنة المشرّفة.
الجواب الثاني: إن العددَ وتحقيقه في هذه القصّة ليس له أثرٌ على فقهها
والمقصود منها، فاختلاف الرواة في العدد، مع اتّحاد المعنى، وظهور الفائدة
منه مع اختلاف اللفظ؛ ذلك ممّا لا يُنافي صحّة القصّة عن رسول الله –صلى
الله عليه وسلم- والتي لم تتأثر باختلاف الرواة في العدد.
ومن المعلوم أن السنة يجوز أن ترُوَى بالمعنى مع تغيُّر اللفظ، بخلاف
القرآن الذي لا يجوز أن يُروَى إلا باللفظ تمامًا. واختلاف العدد في تلك
القصّة وإن كان اختلافًا حقيقيًّا إلا أنه لم يؤثّر في الحكمة المستفادة
منها، وهذا هو المعنى الأهمّ في الحديث.
ولذلك أخرج البخاري هذه القصّة، مع إدراكه لاختلاف العدد الوارد في
روايتها؛ لأنه ليس من الصواب التوقُفُ عن قبول هذا الحديث، وهو حديثٌ يدل
تعدُّد طرقه على أن أصله وأهمَّ معانيه وعامة خبره صحيحٌ عن رسول الله
–صلى الله عليه وسلم-، فلا يكون من الحكمة التردّد في تصحيحه لمجرّد
اختلاف الرواة في العدد، والذي لم يكن مرادًا بذاته، وإنما المراد إثبات
كثرة عدد النساء، وهذا متحققٌ بأي واحدة من تلك الروايات، ليتِّضح
المغزى من القصّة، وقد اتضح تمامًا، مع اختلاف الروايات الواقع!!!
وبناءً على هذا الجواب الثاني: يكون البخاري أخرج هذا الحديث مصحّحًا له،
مع علمه باختلاف الرواة في العدد؛ لأن هذا الاختلاف لا يؤثّر في المعنى
والمقصود الأكبر من الحديث.
ولذلك فقد بَوّب البخاري للحديث مَرّة بـ (باب: من طلب الولد للجهاد)،
ومَرّة في ذكر قصص سليمان في كتاب الأنبياء، ومَرّة تحت باب (كيف كانت
يمينُ النبي –صلى الله عليه وسلم-)؛ لأنه ورد في الحديث قسمٌ للنبي –صلى
الله عليه وسلم- يقول فيه: "وايمُ الذي نفس محمدٍ بيده"، ومَرّةً بوّب له
بـ (باب: الاستثناء في الأيمان) ومَرّةً تحت (باب: قول الرجل: لأطوفن
الليلة على نسائي)، وأخيرًا تحت (باب: في المشيئة والإرادة).
فأنت تلاحظ أن هذه الأبواب كلّها، وهذه الفوائد جميعها لم تتأثر بالعدد،
وأن البخاري لم يورد الحديث (ولا صدر الحديث أصلاً من النبي –صلى الله
عليه وسلم-) لذكر عدد نساء سليمان عليه السلام!
ويصح أن نلخّص هذا الجواب بأن نقول: إذا كانت رواية السنة بالمعنى جائزة،
وكان هذا الاختلاف في العدد لا يؤثر في المعنى المقصود من إيراد قصّة هذا
الحديث، كان إيراد هذا الحديث باختلاف رواياته في العدد صحيحًا لا مطعن
فيه على صحيح البخاري.
وهذان الجوابان كافيان لبيان أن هذا المثال والدليل الذي ذكره السائل للطعن
في صحيح البخاري، لم يكن مثالاً نافعًا ولا دليلاً قائمًا لما أراده.
وهناك أجوبةٌ أخرى ذكرها الحافظ ابن حجر، في شرحه لصحيح البخاري المسمى بـ فتح الباري (6/531) شرح الحديث رقم (3424).
وبذلك أرجو أن يتضح لدى السائل أن موقفه من صحيح البخاري ليس موقفًا
علميًّا؛ لأنه غير معتمد على علم صحيح، وإن قرأ عنه بعض القراءات التي أشار
إليها في آخر كلامه؛ لأن تتابع الخطأ منه في الطرح والاستدلال، وغياب
كثير من المعلومات المهمّة عن ذهنه = يدل ذلك على أنه لا يتناول هذا
الموضوع بعلم.
سادساً: يقول السائل: "ما دامت تلك الأحاديث قد رويت بعد مئات قليلة من
السنين من وفاة نبيّكم –صلى الله عليه وسلم- فقد لُفّقت مثل الإنجيل
والتوراة والزبور، فأضاف الناس آراءهم، ليُشبعوا رغباتهم".
فأقول: هداك الله! على ماذا بنيت هذه النتيجة الخطيرة؟! لقد تبيّنَ لك الآن
بهذا الجواب أن استدلالاتك السابقة كلّها باطلة. فهل سترجع إلى الحقّ
الذي فَقَدْتهُ بهذا الرأي الخطير؟!! هذا هو المظنون بكل راغب في الحق
متعطّشٍ إليه، وأحسبك كذلك، وإلا لما كتبت هذا السؤال!
وأما إن بنيت هذا الرأي الخطير على مجرّد أن الإمام البخاري كتب صحيحه في
النصف الأول من القرن الهجري الثالث، وبالتحديد بين سنة (235هـ) و
(250هـ)= فهذا بناءٌ متهافت، بل هو ساقطٌ من أساسه!
أولاً: أنه ليس كل علم بينك وبين مصدره الأساس قرونٌ يكون مختلقًا، فأنت
تعلم أن هناك علومًا ومؤلفات بينك وبين مؤلفيها قرونٌ طويلة، وهناك حوادث
قديمة وأخبار تاريخيّة كثيرة = لا تشك في صحّتها، مع تطاول الأزمان بينك
وبينها. فليس كل أمر مضى عليه زمنٌ طويلٌ أو قصير يكون باطلاً، وإلا
لما قبلتَ إلا ما تراه بنفسك، وما تأخذه عن مؤلفه مباشرة، وما تحضره دون
أن يكون بينك وبينه وسائط!! وهذا لا يقول به عاقل من البشر!!!
ثانياً: من قال إن السنة لم تُروَ إلا بعد مئات السنين؟! قد سبق وذكرت لك
أن السنة تلقّاها الصحابة عن النبي –صلى الله عليه وسلم- مباشرة، ثم
تلقّاها التابعون، ثم أتباع التابعين، ثم جيل البخاري. فالرواية متصلةٌ من
زمن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- إلى زمن البخاري وزمن من بعده. وسبق أن
ذكرت لك أيضًا أن تدوين السنة بدأ منذ زمن النبي –صلى الله عليه وسلم-،
وأن هناك مؤلفات عديدة وكثيرة وشهيرة سبقت تأليف البخاري، وبعضها يرجع
إلى زمن الصحابة رضي الله عنهم، وأحلتُك إلى رسائل أكاديميّة، منها ما
هو مقدَّمٌ إلى جامعات بريطانيّة.
ثالثًا: لا يشك أحدٌ أنه ليس كل المرويات مختلقاً، ولا السائل يعتقد ذلك، بدليل أنه يرى تنقية المرويات بعرضها على القرآن.
وإذا كانت المرويات منها الصحيح ومنها غير الصحيح، كان على السائل أن يسأل
ويبحث: هل كان لدى البخاري وغيره من علماء السنة منهجٌ نَقْديٌّ يميزون
به بين الصحيح والضعيف؟ فإن وُجد هذا المنهج، كان ذلك قائداً له إلى
الاطمئنان على السنة النبويّة، وأنه يُمكن للعلماء بالسنة (كالبخاري) أن
يميزوا لنا الثابت من الباطل. أمّا أن يفترض السائلُ عدمَ وجود منهج
نقدي، وهو موجود، ثم يبني على افتراضه الخاطئ تلك النتيجة الخطيرة =
فهذا منهجٌ لا يمتّ إلى العلم بصلة؛ لأنه مبنيٌّ على افتراضٍ مناقضٍ
للواقع كل المناقضة.
رابعًا: لقد قدّمت في أول هذا الجواب وفاتحة هذا الخطاب، وقبل الخوض في
الردّ على سؤال السائل: أن السنة النبويّة قد دل القرآن الكريم على أنها
محفوظة، وأنها ستبقى محفوظة ما بقي دين الإسلام. وأن التشكيك في السنة
تشكيكٌ في الدين كُلِّه، وأوضحتُ الدواء الناجع لمن بلغ به داء الشك إلى
هذا الحدّ. ولذلك فإني أنصح السائل أن يعيد قراءة هذا الجواب مَرّات عدّة،
وبتأمُّل شديد، وأن يحاول تجربة ما أرشدته إليه في أقل تقدير، وإن كان
الأولى به أن يأخذ الحقّ المُسْتَدَلَّ عليه بكل قوّة وصدق، ولا يتهاون
في أخذه، ولا يتراخى. لكن أخذه ولو من باب التجربة خيرٌ من تركه
بالكليّة؛ ولأن النفوس مفطورة على حب الحق، فأرجو للسائل أن يثوب إليه
حال سعيه إليه.
وأخيرًا: ذكر السائل أنه قرأ كُتُبًا كثيرة تؤيّد ما ذهب إليه، وهذا ليس
خبرًا غريبًا؛ لأن أعداء الإسلام وأبناءَه الجاهلين بعلومه قد كتبوا بحقدٍ
أو بجهل أمثال تلك الكتب. ومع أنّ الحق لا يُعرف بكثرة القائلين به،
وإنما يُعرف بالأدّلة والبراهين القاطعة به، إلا أن ما كُتِبَ في نقض
الكتب التي أشار إليها السائل، وفي تقرير الحق من هذه المسائل = أكثر
بكثير!!
وإنه لمن دلائل العدل والموضوعيّة في البحث: أن تقرأ لأصحاب كل رأي، لتمكنك
الموازنة بين أدّلة كل رأي. أمّا أن تقتصر على قراءة كتب أصحاب رأي
واحد، أو أن تقرأ كثيرًا لرأيٍ ولا تقرأ إلا قليلاً للرأي الآخر، أو تقرأ
أهمّ كتب رأي، وتقرأ أضعف كتب الرأي الآخر = فإنّ ذلك كله لن يعطيك
القدرة على اتّخاذ الرأي الصائب والقرار الراجح غالبًا!!
وقد ذكرت في مضامين هذا الجواب مجموعةً من الكتب، وإن كنت تريد الاستزادة فأنا مستعدٌ لذلك.
فأرجو أن تجد في هذا الجواب مطلوبك، وأن تكون فيه المساعدة التي تنشدها. والله يهدينا إلى الحق، هو الهادي إلى سواء السبيل.
والله أعلم.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
وللفائدة هذا رابط الفتوى للشيخ حفظه الله بعنوان(
إنكار السنة بدعوى أن الله لم يتعهد بحفظها ):
http://www.islamtoday.net/questions/...t.cfm?id=27056 __________________
أهم الكتب المؤلفة في رد الأفتراءت والشبه عن شيخ الأسلام ابن تيمية رحمه الله
الجواب عن طعون في صحيح البخاري (للشيخ د. حاتم الشريف)